-
سورة الحجرات واحدةٌ من مثاني السور المدنيّة، وقد حَمَلَت اسمَ الحجرات لورود هذه الكلمة في آياتها، والحجرات هي بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- نزلت سنة تسعٍ من الهجرة.
وافتتحت آياتها بأسلوب النداء للمؤمنين “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا”، و سورة الحجرات شأنها شأن السور المدنية تُعنى بالأمور التشريعية والتوجيهية والتربوية اللازمة في إقامة المجتمع المسلم المتوازن؛ لذا جاءت آيات سورة الحجرات تحمل الطابع التربوي والتهذيبي في التعامل مع الرسول الكريم إلى جانب عددٍ من الآداب العامة في التعامل بين الناس كافةً.
ولم يَرِد حديثٌ صحيحٌ في فضل سورة الحجرات وأنّ كل ما يُتناقل في فضل سورة الحجرات في جلب الرزق أو تسهيل أمور الزواج والأجر لا صحة له وهو أقرب إلى الابتداع من الاتباع، لكن تجدر الإشارة إلى فضل سورة الحجرات أنّها أول سُور المفصَّل في القرآن الكريم والتي تبدأ من سورة الحجرات كما قال بذلك الحنفية والشافعية ورجحه ابن كثيرٍ في تفسيره للقرآن الكريم.
و الأوامر في هذه السورة الكريمة للمؤمنين هي كالتالي :
1-أمر لمن يومنون بالله و رسوله بألا يقضوا أمرا دون أمر الله ورسوله من شرائع دينهم فيبتدعوا، وأن خافوا الله في قولكم وفعلكم أن يخالف أمر الله ورسوله، إن الله سميع لأفعالكم عليم بنياتكم وأفعالكم.
وفي هذا تحذير للمؤمنين أن يبتدعوا في الدين أو يشرعوا ما لم يأذن به الله.
وقيل معنى لاتقدموا بين يدي الله و رسوله أي لا تُسْرِعُوا فِي الْأَشْيَاء بَيْن يَدَيْهِ أَيْ قَبْلَهُ بَلْ كُونُوا تَبَعًا فِي جَمِيع الْأُمُور.
2- هَذَا أَدَب ثَانٍ أَدَّبَ اللَّه تَعَالَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَرْفَعُوا أَصْوَاتهمْ بَيْن يَدَيْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْق صَوْته وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَقَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا يَسَرَة بْن صَفْوَان اللَّخْمِيّ حَدَّثَنَا نَافِع بْن عُمَر عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة قَالَ : كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْب بَنِي تَمِيم فَأَشَارَ أَحَدهمَا بِالْأَقْرَعِ بْن حَابِس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَخِي بَنِي مُجَاشِع وَأَشَارَ الْآخَر بِرَجُلٍ آخَر قَالَ نَافِع لَا أَحْفَظ اِسْمه فَقَالَ أَبُو بَكْر لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مَا أَرَدْت إِلَّا خِلَافِي قَالَ مَا أَرَدْت خِلَافَك فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتهمَا فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى ” يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ فَوْق صَوْت النَّبِيّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَط أَعْمَالكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ “.
و بالطبع حاشا خليفتي رسول الله من الخلاف لكنه الشيطان يحاول باستماتة زرع الفتن خاصة بين المؤمنين.
و الآية الكريمة تدل على أنه من التهذيب و الأدب لجميع المسلمين أن لايرفعوا أصواتهم أمام رسول الله ولا ينادونه بشكل غير لائق و إلا حبط عمل من يتجاوز، و بعد مماته أن يحافظ الإنسان على الأدب في الحديث عن رسول الله أو حين ذكره و ذكر سيرته.
3-ثُمَّ نَدَبَ اللَّه تَعَالَى إِلَى خَفْضِ الصَّوْتِ عِنْده وَحَثَّ عَلَى ذَلِكَ وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، فهؤلاء الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله هم الذين اختبر الله قلوبهم بامتحانه إياها فاصطفاها وأخلصها للتقوى، يعني لاتقائه بأداء طاعته واجتناب معاصيه، كما يمتحن الذهب بالنار فيخلص جيدها ويبطل خبثها .
4-يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إن الذين ينادونك يا محمد من وراء حجراتك والحجرات: جمع حجرة..
وذُكر أن هذه الآية والتي بعدها نـزلت في قوم من الأعراب جاءوا ينادون رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من وراء حجراته: يا محمد اخرج إلينا.
ولو أنهم صبروا حتى يخرج لهم الرسول الكريم لكان خيرا لهم في الدنيا و الآخرة ثم يفتح الله باب التوبة بقوله و الله غفور رحيم.
5-التثبت من خبر الفاسق فقوله تعالى ” تبينوا أي تثبتوا” و لا تأخذوا الخبر دونما تحقق.
وقيل أن سبب نزولها أن الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه ـ سيد بني المصطلق ـ لما أسلم اتفق مع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث له ـ في وقت اتفقا عليه ـ جابياً يأخذ منه زكاة بني المصطلق، فخرج رسولُ رسولِ صلى الله عليه وسلم لكنه خاف فرجع في منتصف الطريق، فاستغرب الحارث بن ضرار تأخر رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت ذاته لما رجع الرسول إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث إلى الحارث، فالتقى البعث الذين بعثهم
الرسول صلى الله عليه وسلم مع الحارث بن ضرار في الطريق، فقال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك! قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله! قال: لا والذي بعث محمداً بالحق، ما رأيته بتة ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟! قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل ورسوله، قال فنزلت الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أن تصيبوا قوما بجهالة).
الثمار المستفادة :
ما أروع القواعد التربوية القرآنية و ما أجمل التهذيب الرباني، فالأدب و التهذيب هما روح هذا الدين و سلوك متبعيه.
و التثبت بشكل خاص منهجية حضارية ترتكز على عدم أخذ الأمور على علاتها وتفنيد الخبر و تمحيص المعلومة حتى لا يندم المرء و يتسرع فيفسد علاقاته أو يظلم أحدا و كم من علاقات هدمت و بيوت خربت بسبب عدم التثبت.
بل إن التثبت أساس المنهجية العلمية فالبحث العلمي و الدراسة العلمية ترتكز على اختبار الفرضيات وتمحيص المعلومات و لايتم التوصل لنتيجة إلا بعد التثبت منها.
ياله من كتاب عظيم.. رائع البيان والتبيين.
لايفوتنكم إكمال درر القواعد في الغد بإذن الله.
د. فاطمة عاشور 💜