دائماً مايكون هناك حديث خفيٌ بين القلب وهواجسه، والعقل و وساوسه.. تنتهي غالباً بالانتصار على الشك باليقين و لا يكون ذلك إلا بالأدلة الدامغة التي تطرد كل المخاوف والقلق من الأدمغة.
ليس من المعقول أن نضع كل شؤون الحياة على ميزان اليقين ولا نستطيع ذلك، فنحن نعيش في دنيا كل مافيها زائل و غير ثابت، فكيف لنا أن نحتج أو نطالب بالبقاء مادمنا مدركين أن لكل بداية نهاية، و أن الموت حقيقة مثبتة لكل كائناً من كان..
اليقين نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام أثبتها الله عز وجل في كتابه الكريم..
والتي جاء منها قسمين في سورة التكاثر في الآيتين الكريمتين آية ٥ و آية ٧ بعد وصف النار و مصير كل من التهى بالتفاخر بالولد والمال ونسي الآخرة وغرته دنيا الغرور..
أقسام اليقين
١- علم اليقين والذي يعني حق العلم والمعرفة وهنا العلم يقتصر على المعرفة العقلية والتصور الذهني كمعرفتنا بحقيقة الموت وهذا القسم أول مرحلة من مراحل اليقين فقال جل في علاه :
﴿كَلّا لَو تَعلَمونَ عِلمَ اليَقينِ﴾
[التكاثر: ٥]
في هذه الآية الكريمة الحقيقة العلمية والمعرفة الثابتة لدى كل مسلم أن هناك نار جهنم عذاب و عقوبة لكل كافر ولايكتمل إيمان أحدنا إلا بالإيمان باليوم الآخر ومافيه من جزاء سواء كان ثواب أو عقاب..
٢- عين اليقين : أي معاينة الحق و رؤيته بالعين المجردة وهنا يُقصد بها الأدلة الملموسة والمحسوسة كرؤيتنا لشخص يموت أمامنا ، فهنا انتقل اليقين من العقل كفكرة وترجم لواقع أمامنا، لكن لانعلم ما يواجه هذا الذي يموت من أحاسيس ومشاعر ومايرى أمامه من مناظر، فهنا يقتصر اليقين على الرؤية والمشاهدة من دون الشعور والأحاسيس ..
فقال سبحانه وتعالى :
﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَينَ اليَقينِ﴾
[التكاثر: ٧]
أي سترون النار وتنظرون إلى عقوبة الكفار وعذابهم وهنا يصبح اليقين أعمق من فكرة بل يكون الأثر أقوى لمشاهدة جهنم وما يصاحبها من صخب ولهب – أجارنا الله منها -..
٣- حق اليقين وهو الدليل القاطع الذي لا جدال فيه ولا مجال للبحث والتجربة والتحقق منه، كمواجهتنا للموت كحقيقة ثابتة ومعايشة مراحل الموت من منازعة وسكرات وخروج الروح من الجسد، وهنا أعلى مراتب اليقين فقد اجتمع العلم بأن نهايتنا الموت، و رؤية ملك الموت ثم الشعور الحقيقي بالموت..
ولقد ذكر الله تعالى حق اليقين في موضعين من سورتين في القرآن الكريم
الموضع الأول :
﴿إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليَقينِ﴾
[الواقعة: ٩٥]
والموضع الثاني :
﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليَقينِ﴾
[الحاقة: ٥١]
وفي كلتا الآيتين الكريميتن جاءت كلمة حق اليقين بعد وصف جهنم والعذاب – أعاذنا الله منها – ولكن كان التأكيد أن الكفار سيدخلونها ويقاسون العذاب حقيقة لا ظناً ..
نخلص في هذا المقال إلى أن طبيعة البشر تقتصر على ثلاث مراحل لليقين، والتي لايمكن له أن يهدأ باله، ولا يطمئن قلبه إلا بالمرور على أحد هذه المراحل فبالرجوع إلى القرآن الكريم نجد أن الله ذكر لنا قصة إبراهيم عليه السلام عندما طلب من الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى وكيف كان رد الله و إعجازه عندما سأله أولم تؤمن؟! فكان الرد بشريا خالصا قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي..
﴿وَإِذ قالَ إِبراهيمُ رَبِّ أَرِني كَيفَ تُحيِي المَوتى قالَ أَوَلَم تُؤمِن قالَ بَلى وَلكِن لِيَطمَئِنَّ قَلبي قالَ فَخُذ أَربَعَةً مِنَ الطَّيرِ فَصُرهُنَّ إِلَيكَ ثُمَّ اجعَل عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنهُنَّ جُزءًا ثُمَّ ادعُهُنَّ يَأتينَكَ سَعيًا وَاعلَم أَنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ﴾
[البقرة: ٢٦٠]
طبيعة النبي إبراهيم عليه السلام البشرية جعلته يتساءل عن كيفية إحياء الموتى، و لأن طبيعتنا تقتصر على كل ماهو ملموس ومرئي، طلب إبراهيم عليه السلام المرحلة الثانية من اليقين رؤية ذلك بالعين المجردة حتى يطمئن ويستقر اليقين داخل قلبه..
وطمأنينة القلب مطلب كل البشر، حيث أنها قاعدة السعادة والتي يُبنى عليها كل أركان رغد العيش..
فالحمدلله أن جعل الله لنا الإسلام ديناً فهو بداية للطمأنينة ثم أن جعل القرآن الكريم منهجنا ودستورنا وفيه سكينة للقلوب، والحمدلله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه أن جعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم مرشدنا وهادينا للطريق الصحيح للسعادة الدنيوية والآخروية ومعلمنا الذكر الذي به تطمئن القلوب..
قال تعالى :
﴿الَّذينَ آمَنوا وَتَطمَئِنُّ قُلوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ أَلا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ القُلوبُ﴾
[الرعد: ٢٨]
في هذه الآية الكريمة وصف جميل للمؤمنين والمؤمنات ألا وهو الإطمئنان بذكر الله تعالى والإلتجاء إليه عندما يحزبنا أمر من أمور الدنيا أو تغلب علينا شهوات ونزغات الشياطين، فالصلاة ذكر، وقراءة القرآن الكريم ذكر، والتسبيح والتكبير و أذكار الصباح والمساء ذكر، وجعل لنا الذكر السهل والميسر، مفتاح للطمأنينة وقلب للسعادة ..
بقلم : وفاء العتيبي 🕊️