هل للصحافة أن تستمتع بحريتها الكاملة بالقياس إلى الأخلاق و السياسة و الدين و ما إليها من النظم الأجتماعية ؟
الجواب لا . و هذا الجواب يختلف بأختلاف حظوظ الكتاب و الصحفيين من المحافظة و الأعتدال و التطرف ، و ما أرى إلا أن هذا الخلاف سيظل أبدا .
و لست أحب أن أعرض رأيي فيه الآن ، و لا أقول فيه نعم أو لا ، و أنما أنا أحد الذين يشهدون هذه المسألة و أنا أدع للمختصين في هذا المجال و غيرهم الجواب عن هذه المسألة .
و بخلاصة شديدة الأيجاز و هي على أسرافها في الأيجاز تعطيك صورة عن حرية الصحافة أقل ما توصف بها أنها غريبة ، و قد أثارت مسألة كثر القول فيها ، و سيكثر فيها القول ، لأنها من هذه المسائل التي لا يتفق عليها ، أو بعبارة أدق من هذه المسائل التي سيظل الخلاف فيها قائما أبدا بين الفرد و الجماعة و لا سيما حين يكون هذا الفرد على حظ من التفوق و النبوغ .
على أنه من الحق أن نلاحظ أن أكثر الكتاب يصانعون الجمهور و الجماعة و أنهم لا يخالفون الناس فيما يرون و ما يعتقدون فيما يتصل بحياتهم العملية و العقلية و الشعورية و أن أصطناعهم شيء سهل لا يكلفهم عناء و لا مشقة ، و لهم في ذلك مباحث طوال و كلام كثير ، و هم معذورون ، فظواهر الأشياء كلها تحملهم على ذلك . فالكاتب مقيد في أطلاقه لكلامه في الصحافة . و تعليل هذه الظاهرة لا عسر فيه . و أنت إذا نظرت في تاريخ الأمم القديمة و الحديثة ، و إذا نظرت في حياة الأمم التي لم تكد تتحضر بعد فسترى أنها كلها ترى أن الخيال في الكتابة حر طلق يمضي حيث يشاء و يصور الأشياء كما يشاء ، لا كما تشاء الطبيعة ، أما العقل فقد لا يطلق نفسه من القيود ، و هو لا يصور الأشياء كما يشاء و لكنه يقبل صورها كما هي ، هو مقيد و الخيال مطلق ، و لكن الكاتب يريد أن يحمل عقله على أن يتحدث إلى عقل القاريء ، و لكن ما أثقل القيود و الأغلال التي تعوق العقل عن الحركة و لا تأذن له بالتقدم إلا في بطء و أناة .
هناك صلة قوية جدا بين الحياة العقلية لأغلب الكتاب و بين واقع الحياة التي يعيشونها بما فيها من قوة و ضعف و من رقي و أنحطاط . و من هنا نستطيع أن نلاحظ أن النتيجة القيمة هي أطلاق الكتابة من القيود و أن لا نطلقها من القيود عبثا . و إنما نطلقها منها لأننا نريد أن نمنحها الروح القوي الذي يمكنها من أن تستقل بنفسها ، و تستهوي العقول و الألباب .و من الحق على الكتاب المجيدين أن يعرفوا حياتهم التي يريدون أن يتحدثوا عنها بعض الحديث على أن لا يسرفوا و أن لا يتجاوزوا الحق ، و ينتج عن ذلك نتيجة واحدة هي نشاط العقل و أستئنافه الحركة في الحياة الصحفية بأستحداثه الجديد النافع للصحافة . و أنا حين أذكر الصحافة لا أريد بها اليومية دون الأسبوعية أو دون الشهرية أنما أريد الصحافة كلها . و حسنا أن نلاحظ أن الصحافة قد بلغت من القوة هذه الأيام حظا موفورا .
و كما نرى أن أصحاب الصحافة هم أقرب إلى النشاط في الكتابة و التحدث إلى الجمهور بحكم صناعتهم . و فيهم طموح الى الجديد دائما ، ثم أصبحت الكتابة و النقد حظا شائعا في الصحفيين ، و لا أحد يستطيع أن يأخذ الكتاب جميعا بالتحرج و التقييد فيما يكتبون ، و لكل شيء خيره و شره ، و قد كان للخصومة في حرية الصحافة حسناتها و منافعها ، و أول ما نلاحظ من هذه الحسنات أن تصبح كتابة الصحفيين بالشكل الذي يحرص على أن لا يتجاوز فيه الكاتب بآرائه و أن لا يتخذ الصحيفة وسيلة إلى التنافس و إثارة الخصومات و المنازعات و أن يكون أسلوبه في الكتابة ملائما للذوق الجديد و الميول و الآمال الجديدة .
أخشى أن أكون مسرفة بعض الشيء ، في التحدث إليكم عن الصحافة فقد أطلت و أسرفت في الأطالة ، و نحن نتفق في النهاية على أن الذوق العام هو الذي يعطي الحياة الصحفية حظا من الموضوعية ، و أن الصحافة تتسع و تضيق و تقوى و تضعف ، و نحن نشترك معها أشتراكا قويا و هذا الأشتراك هو الذي يجمعنا على الأعجاب ببعض آثارها في الكتابة دون بعض و أننا نجد فيها مزاج من الأذواق فيه الوفاق حينا و فيه الصراع حينا آخر ، و من هنا نلاحظ أن الحياة الصحفية في هذا العصر حياة قوية نشيطة فيها شيء من الجدة و فيها شيء من الرفق و الدعة حينا ، و العنف و الشدة حينا آخر ، و يختلف أندفاعها قوة و ضعفا بأختلاف الظروف ، و بذلك وجدنا شيئا من التفكير و النظر فيها لأننا نتأثر بظروف مشتركة تطبعنا بطابع عام يجمعنا و يؤلف بيننا .