في شهر رمضان المبارك الكل يسارع في الخيرات و في جبر الخواطر والتحلل من حقوق البشر طمعاً بما عند الله ، وخشية الحرمان العظيم من العتق في هذه الليالي المباركة و الخوف من النار التي طالما تأذينا من حروقها مع أنها جزء من سبعين جزء من جهنم والعياذ بالله..
لو عدنا قليلاً إلى الأشهر التي خلت قبل رمضان المبارك لرأينا حالاً لايشبه حالنا الآن ولا شعوراً كذلك ولا عزيمة و لا إرادة، وكأننا نعيش بمعزلٍ عن الله سبحانه وتعالى والخوف منه و إتقاء ناره ولو بشق تمرة..
نعم هو شرف زمان و تسلسل رحمات و سلسبيل طاعات، لكنه والله من خشي الرحمن بالغيب في شهر كرمضان كان حريٌ به أن يتقيه ويقف على حدوده في كل زمان ومكان..
فهناك أشهر يضاعف فيها الذنب و تُعظّم الحدود بها وترهبها النفوس الطاهرة، والقلوب الوجلة، التي ترغب بما عند الله على ما عند خلقه، لكن الحال المؤسف السائد، الغفلة عنها و عدم تعظيمها ألا وهي الأشهر الحرم : رجب و ذو القعدة وذو الحجة و محرم..
أربعة أشهر فقط لم يكن من بينها شهر رمضان المبارك، نعم هو شهر فضيل ولكنه جاءنا برحمة من الله لم يكن لنا فضل على الله فيه ولا لمجاهدة أنفسنا فيه فقد تكفل الله بصفد الشياطين عنا، و تتنزل بفضله الملائكة و تتغشانا الرحمة والمغفرة و يعم فيه البركة حتى أننا بكل عمل يسير نجمع من الحسنات الشيء الكثير فسبحان الله ما أرحمه..
شهر رمضان لا يقل تعظيما عن الأشهر الحرم وذلك لاحتوائه على شعيرة الصوم و الصوم ركن من أركان الإسلام و جزاؤه على الله ومن تقوى القلوب تعظيم شعائر الله فقد قال الله عز شأنه :
﴿ذلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِن تَقوَى القُلوبِ﴾
[الحج: ٣٢]
هأنت الآن تقف أمام الميزان؛ لوزن أعمالك فهلم نقارن بين طاعاتنا وتقربنا إلى الله في شهر رمضان و بين طاعاتنا في الأشهر الحرم التي ذكرها الله في أكثر من آية ووضح فيها معنى التقوى الحقيقي والجلي، فلقد ربط سبحانه وتعالى عظم حرمتها بالتقوى في سورة البقرة في أكثر من آية فقال :
﴿الشَّهرُ الحَرامُ بِالشَّهرِ الحَرامِ وَالحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعتَدى عَلَيكُم فَاعتَدوا عَلَيهِ بِمِثلِ مَا اعتَدى عَلَيكُم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقينَ﴾
و أيضاً قال جل في علاه :
﴿يَسأَلونَكَ عَنِ الشَّهرِ الحَرامِ قِتالٍ فيهِ قُل قِتالٌ فيهِ كَبيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبيلِ اللَّهِ وَكُفرٌ بِهِ وَالمَسجِدِ الحَرامِ وَإِخراجُ أَهلِهِ مِنهُ أَكبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالفِتنَةُ أَكبَرُ مِنَ القَتلِ وَلا يَزالونَ يُقاتِلونَكُم حَتّى يَرُدّوكُم عَن دينِكُم إِنِ استَطاعوا وَمَن يَرتَدِد مِنكُم عَن دينِهِ فَيَمُت وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَت أَعمالُهُم فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُم فيها خالِدونَ﴾
وفي كل موضع وضح لنا الله أن الذنب مضاعف في الأشهر الحرم حتى لو كان قصاصاً فما بالنا إذا كان إعتداءً وظلماً وطغياناً
وقال سبحانه وتعالى في سورة المائدة :
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تُحِلّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهرَ الحَرامَ وَلَا الهَديَ وَلَا القَلائِدَ وَلا آمّينَ البَيتَ الحَرامَ يَبتَغونَ فَضلًا مِن رَبِّهِم وَرِضوانًا وَإِذا حَلَلتُم فَاصطادوا وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ أَن صَدّوكُم عَنِ المَسجِدِ الحَرامِ أَن تَعتَدوا وَتَعاوَنوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوى وَلا تَعاوَنوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَديدُ العِقابِ﴾
الله الله نخاف ونحذر، ونعوذ بالله أن نقرأ القرآن الكريم ولا نتدبر، والله يحذرنا منه ومن عظم العذاب والبطش في شئون حياتنا التي امتلأت استهتار وطيش..
سؤال عارض و حتمي لكل النفوس و يخصُ النفس اللوامة أكثر ، هل يضمن أحدنا أن يُقبل عمله أو يبلغ الجنة بعمله أو أن ينظر الله – تقدس في ملكوته – له بنظرة رضا وقبول، فكيف بنا نستهين بالمعاصي، ونستعين بالشياطين، في كل وقت وحين، و ننظر لأنفسنا نظرة زهو وفخر بما قدمنا من أعمالٍ في رمضان ونحن نعلم علم اليقين أن الله سهل لنا كل السبل و روض كل النفوس لعمل الطاعات والابتعاد عن المعاصي والذنوب في شهر الخير، شهر القرآن وشهر تقدير المقادير و تحقيق الأماني في ليلة بلغت بأجر ألف شهر من العبادة سبحانك يا الله ما أكرمك! و سبحانك ما أعظمك!
سخر لنا كل خير لنبلغ الجنة بكرمه وحلمه ورحمته وإذا انسلخنا من رمضان بارزناه بالمعصية..
مع أننا لو تدبرنا قليلاً القرآن الكريم في هذا الشهر الكريم لعرفنا معنى التقوى ولن تمر علينا آيات كريمات من سورة المائدة مرور الكرام بل سنتمهل ونقف عند كل حرف ومعنى فلنا في قولة تعالى أكبر واعظ و أعظم نصح حيث قال :
﴿جَعَلَ اللَّهُ الكَعبَةَ البَيتَ الحَرامَ قِيامًا لِلنّاسِ وَالشَّهرَ الحَرامَ وَالهَديَ وَالقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعلَموا أَنَّ اللَّهَ يَعلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾
[المائدة: ٩٧]
علمُ الله بكل ما في السماوات والأرض وما بينهما وكل شيء يجعلنا نخاف مما يدور في نفوسنا قبل أن يخرج للعلن.. و تتأصل الفكرة، وتزيد الرهبة عندما نقرأ ونتدبر الآية الكريمة التي تليها :
﴿اعلَموا أَنَّ اللَّهَ شَديدُ العِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾
[المائدة: ٩٨]
فبما أن الضد بالضد يقارن، فالعذاب أقوى وأشد و أرجى أن يُتقى و أن يُخشى من التهاون بالرحمة والركون إلى طول الأمل و تأجيل التوبة بحجة أن الله واسع المغفرة..
ثم أن الله بهذا القرآن الكريم وبهذه الآيات يقيم علينا الحجة البينة بتبليغ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم و أنه بهذه الآية الكريمة يثبت علمه الواسع المطلع لما يدور في خلد كل واحد منا وما يجتهد لإظهاره بأي شكل من الأشكال ليرضي من حوله..
فقد قال سبحانه وتعالى :
﴿ما عَلَى الرَّسولِ إِلَّا البَلاغُ وَاللَّهُ يَعلَمُ ما تُبدونَ وَما تَكتُمونَ﴾
[المائدة: ٩٩]
فالله أوصيكم ونفسي بالتقوى في السر والعلن ومراقبة الله في كل أمر من أمور حياتنا ولنعلم أن كل مافي الدنيا زائل وماعند الله باقٍ وحسن العاقبة لمن أتقى..
(( اللهم اجعل التقوى زادنا، و في دينك اجتهادنا، وعليك توكلنا واعتمادنا، ربنا اجمع قلوبنا على طاعتك، و نفوسنا على خشيتك، واكتبنا من عبادك الصالحين، واعتق رقابنا من النار ورقاب والدينا وجميع المسلمين يارب العالمين )) ..
بقلم : وفاء العتيبي 🕊️