إن الإذاعي الجيد لن يكون موهوباً إلا إذا تحول إلى إذاعي مبدع و مجدد في عطائه يقدم ما يؤثر في وعي و إدراك فكر الفرد المتلقي و من خلال رؤيتي النقدية أود أن أشير إلى أنه يجب أن ينطوي أسلوبه في التقديم في بعض أجزائه على تلك اللمسات السحرية التي تلمس شغاف القلب و التي ندعوها بالموهبة الفنية و السؤال هنا هو : هل الإذاعي الجيد هو حقاً من يستطيع أن يلمس شغاف قلب المستمع فحسب ؟
إني أستأذن القارئ في تأجيل الإجابة على هذا الأستفهام إلى مكان آخر من المقال .
و قد يبدو واضحاً أن التفاعل بين الإذاعي و المستمعين يكون متبادلا بصورة مباشرة ، فالإذاعي الجيد يشبع رغبة أو يرضي حاجة لدى الجمهور ، ثم يتلقى _ على المستوى _ التعبيري _ تقديراً و إعجاباً .
و بذلك فإن عملية التفاعل ستؤدي إلى إشباع رغبة من طرف و إعجاب و تقدير من طرف آخر و يجب عدم تجاهل العمل الإذاعي و الناقد ، أو بينه و بين الجمهور أو بينهم جميعاً . إن العمل الإذاعي لا يتم أو يصاغ في فراغ لأنه يرتبط ببيئة معينة لها خصائصها التي تؤثر بلا شك في صياغة ذلك العمل ، لذا لابد لنا أن نؤكد أن العمل الإذاعي يجب أن يشمل دراسة كلا من المعد و الإذاعي المقدم و الجمهور و العمل الإذاعي .
فبناء العمل الإذاعي إذاً يشتمل على الإذاعي الذي يبدع العمل الإذاعي ، و الجمهور الذي يتلقى هذا العمل ثم العمل الإذاعي نفسه الذي يتضمن خبرة هذا الإذاعي الناتجة عن أحتكاكه بالواقع بكل ما يضمه من مؤثرات ، بالإضافة إلى الثقافة الشخصية لهذا المبدع .
إن الإعلام الإذاعي له دوره الإيجابي في المجتمع ، ذلك لأن الإعلام الإذاعي حامل لنموذج من السلوك المرغوب فيه من قبل المجتمع ، بحيث يمكن للأفراد أن يتمثلوا هذه النماذج السلوكية و يمارسوها في حياتهم اليومية . كما يمكن أن ندعو إلى ضرورة تصور وظيفة الإعلام الإذاعي في حياة الجماهير دون التقولب في جوانب ضيقة أو محددة قد لا تناسب التكوين التأريخي و الحضاري لمجتمعنا . و من ثم فإن الإعلام الإذاعي يجب أن يتخذ وسيلة لتريية الشعب .
و نستطيع القول بأن الإعلام الإذاعي يعتبر وسيلة هامة من وسائل الضبط الإجتماعي إلا إن آرائي التي عرضتها تقف عند المستوى النظري و لا تكشف عن ديناميات الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام الإذاعي في هذا الميدان ، بمعنى .. كيف يؤثر العمل الإذاعي في الجمهور بحيث يبني ذلك الجمهور الإتجاهات السلوكية و الموضوعية في العمل الإذاعي و يستدمجها و يتمثل بها في سلوكه الإجتماعي ؟ ثم كيف يؤثر العمل الإذاعي في العلاقات الإجتماعية التي تقوم بين الأفراد و الجماعات . فلا شك أن العمل الإذاعي يتضمن نماذج معينة من السلوك و المواضيع المختلفة في مجالات شتى .. و لا شك أيضاً أن الجمهور المتلقي يتأثر بطريقة أو بأخرى بهذه النماذج ، و أن تأثره لا يقف عند حد الإعجاب فحسب ، و لعل سعينا إلى معرفة طبيعة هذه المواضيع و النماذج السلوكية و ميكانزمات تأثيرتها يقودنا إلى الكشف عما يشغل بال الإذاعيين من قضايا و هموم .
و نحن نحتاج بالفعل إلى المقارنة بين نماذج السلوك الواردة في العمل الإذاعي و بين متطلبات المجتمع و ظروفه في هذه المرحلة التي يمر بها ، و هنا يبرز الدور الإبداعي المتميز الذي يجب أن يلعبه الإذاعي و بين متطلبات المجتمع و ظروفه في هذه المرحلة التي يمر بها ، فهل نجح الإذاعيون في تحقيق دورهم . و إلى أي مدى ؟ و ماذا يمكن أن يقدموا لمجتمعهم . و إذا كانت العناصر الحضارية تمارس تأثيراً على أفراد المجتمع الذي توجد فيه ، فلا شك أن آثار الأعلام الإذاعي خلال فترات النمو الإجتماعي هي التي تحدد الحضارات المختلفة ، فالحضارة إذاً ترتبط بعصر محدد و طبقة محددة و قوم و مجتمع محددين . و لذا يصبح واضحاً بأن الأعلام الإذاعي سيكون وسيلة للضبط الإجتماعي في ظل ظروف تاريخية معينة . و الموقف هنا لا يخلو من الجدلية ، فحاجتنا إلى التعرف على دور الإعلام الإذاعي في توجيه السلوك الإجتماعي و التأكد من هذا الدور يجعلنا في حاجة إلى أستبصار واعٍ بالظروف الإجتماعية لمعرفة ما إذا كان أفراد المجتمع يسترشدون في سلوكهم بالنماذج السلوكية للأعمال الإذاعية . أم أن التأثير و التفاعل متبادلان بين هذا و ذاك . و هنا أيضاً يبرز دور الواقع الإجتماعي و الظروف التاريخية التي يعيش الناس في ظلها .
من هنا يظهر الأتجاه السوسيولوجي للأعلام الأذاعي الذي يكون مؤكدا دوره بأعتباره أحد عناصر الحضارة و أحد أشكال الوعي الأجتماعي التي تعكس الواقع في تصورات فنية ، و في الوقت نفسه يمكن أعتبار أن الأعلام الاذاعي يعتبر أحد الوسائل الهامة للأدراك الجمالي للفن لأن من خلال الأعلام الأذاعي سيكتشف الجمهور بالدلالة المعرفية الأبداع و الفن و سيمارس الأعلام الأذاعي من خلال وظيفته في تأثيره الأيدلوجي و التعليمي القوي على جمهور المستمعين . و أن للأعلام الأذاعي وظيفته الهادفة التي تبدو في تطوره من خلال أنماطه الرئيسية التي تضم العديد من الأشكال الأبداعية . فتأريخ الأعلام دائما هو أنعكاس للواقع ، و أتساع و أثراء لمعرفة الانسان الجمالية و تحول العالم من خلاله .
و الآن يجب علينا أن نتذكر الأستفهام الذي أثرناه من قبل عن الأذاعي الجيد وأن نوسع علامة الأستفهام لنسأل : ما هو الدور الذي يجب أن تلعبه الأذاعة في تاريخنا المعاصر ، و ما هي الأهداف التي يجب على الأذاعيين أن يسعوا الى تحقيقها ؟ إن محاولة مناقشة هذه القضية تجعلنا نلح على ضرورة وجود أستبصار واع و مخلص بطبيعة الظروف التي يمر بها المجتمع ، و الأهداف التي يسعى الى تحقيقها ، إن مجتمعنا _ بأختصار _ يشارك في صراع عنيف ضد هجمات العنف الشرسة ، و يرتبط بحركة التطور الهائلة التي يشهدها العالم ، ثم هو يواجه مهاما أساسية في الداخل تتمثل في بناء و تنمية المجتمع ، و على الأنسان أن يعي موقفه و موقف مجتمعه من هذه القضايا .
و على الأعلامي و الأذاعي الجيد أن يجعل من هذه القضايا بؤرة أهتمامه و مشاغله . و أن يخبر موقف المعاناة الحقيقية بحيث تنكشف الحياة في أعمال اذاعية أبداعية تعكس في أسلوب فني قيمنا الأيجابية و السلبية ، و تسعى من خلال الأساليب و الأشكال المختلفة الى الكشف عما مناسب و مطلوب من أجل تحقيق الأهداف المنشودة .
فالعمل بالنسبة للمبدع في العمل الأذاعي عملية عقلية واعية و ليست مجرد أنفعال أو فكرة ، أو موضوع محدد و هو عمل ينتهي بخلق صورة جديدة للواقع ، تمثل هذا الواقع كما فهمه الانسان و أخضعه لسيطرته .كما أن الاعلام الاذاعي لا يمكن أن يكون مجرد تقرير للواقع ، فوظيفته دائما هي أن يحرك الانسان في مجموعه ، و أن يمكن ( الأنا ) من الأتحاد بحياة الآخرين و يضع في متناول يدها مالم يكنه و يمكن أن يكونه .
و من الجدير بالذكر أن الكثير من الأذاعيين الجيدين أستطاعوا أن يكشفوا عن التغير الاجتماعي في المجتمع ، رابطين هذا التغير بالظروف العامة التي مر بها المجتمع ككل متأثرا سواء بالظروف العامة التي مر بها المجتمع ككل متأثرا سواء بالظروف الخارجية العالمية أو المحلية ، و إذا كانت هناك أمثلة كثيرة على قدرة الأذاعي الجيد على مس الواقع مسا مباشرا ، إلا أننا في حاجة الى مزيد من الأهتمام بالمستقبل و بقضية التطور بحيث يكونان جوهر العمل الاذاعي و الفني ، فكل أبداع و فن وليد عصره ، و هو يمثل الأنسانية بقدر يتلائم مع الأفكار السائدة في وضع تأريخي محدد ، و مع مطامح هذا الوضع و مع حاجاته و آماله بأستطاعتي أن أقول أن الأعلام الأذاعي يمضي الى أبعد من هذا المدى . فهو يجعل كذلك من اللحظة التأريخية المحددة لحظة من لحظات الأنسانية ، لحظة تفتح الأمل نحو تطور متصل .