قرأت سابقاً في أحد الكتب عن ماهية الروح والفرق بينها وبين النفس وعن ما إذا كانت النفس هي الروح أم لا ؟!
استوقفني هذا الطرح كثيراً فبحثت عنها وقررت أن أكتب ما توصلت إليه من أفكار و من تحليلات أقرب للحقيقة منها للظنون ..
بدأت بقراءة كتاب الروح للعلامة ابن قيّم الجوزية رحمه الله..
وجدت فيه تفصيلٌ عن كل مايتعلق بالروح ومدعمٌ بأدلة قرآنية وأخرى من السنه المطهرة..
قسّم العلامة ابن قيم الجوزية الروح إلى قسمان في الحياة وهي أرواح متآلفة وأرواح متنافرة مستنداً إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»
كما أنه قسم الأرواح بعد الموت ومفارقة الأجساد قسمين آخرين : أرواحٌ معذبة – فهي المنشغلة بالعذاب عن التزاور والتلاقي سواء مع أرواح الأحياء أو الأموات، وأرواحٌ منعمة – فهي الأرواح المرسلة غير المحبوسة للتلاقي والتزاور..
واستخلصت من هذا الكتاب أن الأرواح التي تأتي في الرؤى والمنامات إنما هي زيارة أرواح من ماتوا أو حتى من اشتاقوا من الأحياء إلى أحبائهم فتكون إما مبشرة أو محذرة أو تشعرهم بالحب والاشتياق ..
ابن القيّم رحمه الله يعتقد أن النفس هي الروح واتفق معه الكثير من العلماء من السلف ومن المعاصرين و منهم الشيخ الدكتور عبدالعزيز الفوزان حفظه الله، حيث قال أن النفس هي ذات الإنسان من جسد وروح و أن الروح متفرقة في الجسد، فعند الموت تُجمعُ وتنزعُ منه.. والنفس هي التي تتحكم في الروح والجسد معاً..
أما الدكتور محمد وهدان فعرّف الروح بأنها شيء لطيف شفاف يشتبك بالجسد كاشتباك الماء في العود الأخضر و أنها هبة من الله لكل المخلوقات الحياة فهي الشريان النابض بالحياة في جسد كل مخلوق ..
اتفقوا جميعاً أن مكانها غير معلوم ولا يعلم بها إلا الله..
لقولة تعالى : ﴿وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي وَما أوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلّا قَليلًا﴾
[الإسراء: ٨٥]
لكنها عند الخروج من جسد ابن آدم تُنزع من أطراف أصابع قدميه وصولاً إلى العينين فسبحان الله ما أعظمه، وكأن الإنسان يودّع روحه بالنظر إليها صاعدة إلى السماء، ولكنها ليست المرة الأخيرة للقاء ..
فبعد الموت تعود وترتبط الروح بالجسد ليحاسب في القبر ثم يفنى الجسد وتبقى الروح مشتاقة في البرزخ إلى يوم البعث..
فإما أن تكون منعمة وتشتاق للاقتران بالجسد للدخول الى الجنة أو تكون متحسرة وتوّاقة للعودة إلى الدنيا لتعمل صالحاً، نادمة على مافرطت في جنب الله ..
أما النفس تختلف عن الروح في وجودها في الجسد فقد تتركز في مواضع معينة من قلب وفكر وجوارح وتكون بمثابة المحرك الرئيسي للإنسان، حيث أن الروح معلقة بأمر ربها متعلقة به فلا سلطة للشيطان عليها إنما يوسوس للنفس ..
ولقد ذكرها الله في محكم التنزيل بأنه ألهم النفوس الهدى ووضح لهم طريق الهداية والضلال، لكن الشيطان زين للكافرين الفجور والكفر والبعد عن الله..
والنفوس مراتب ومنازل كما ذكرها د. محمد وهدان، حيث قسمها إلى سبعة أقسام مستنداً على أدلة القرآن الكريم ..
ابتدأها بالنفس الأمارة بالسوء، ونعوذ بالله أن نكون من أهلها ومن اتباعها، تتعمد النفس الأمارة بالسوء كل شيء يجلب الشر من حسدٍ وحقدٍ وغلٍ، فتأمر صاحبها بمرافقة الشياطين، ومتابعة أوامرهم.. تجد صاحبها بعيداً عن الله وعن الذكر ، مُبغضاً مكروهاً ممن حوله، والعياذ بالله منهم.. وذكرها الله عز وجل في قوله تعالى : ﴿وَما أُبَرِّئُ نَفسي إِنَّ النَّفسَ لَأَمّارَةٌ بِالسّوءِ إِلّا ما رَحِمَ رَبّي إِنَّ رَبّي غَفورٌ رَحيمٌ﴾
[يوسف: ٥٣]
ثم النفس اللوّامة وهي النفس التي لا تفتأ بتذكُّر الأحداث واللوّم على ماحدث وتتحسر على مافاتها من الخير وهنا يكمن فيها خيرٌ وشر.. حيث أن الخير فيها بمراجعتها لصاحبها وتذكيره بحقوق الله وحقوق الناس؛ لكنها أحيانا تعود به للوراء لندب الأعمال الحسنة إذا لم تلقى تقبلاً و إحساناً فتندم وتتحسر على فعل الخير وهذا هو الركن السلبي لهذه النفس اللوّامه..
ولقد أقسم الله بها تعظيماً للنفس في قولة تعالى : ﴿وَلا أُقسِمُ بِالنَّفسِ اللَّوّامَةِ﴾
[القيامة: ٢]
أما النفس المطمئنة فهي تلك النفس الخاضعة لأمر ربها، الآمنة بالله، مستودعة كل أمورها في كنف الرحمن..
والنفس الرّاضية هي النفس
المقرة بأقدار الله خيراً كانت أم شراً ، المعترفة بذنبها وتستدرك الذنوب بالإستغفار ليلاً ونهاراً ..
نأتي إلى النفس المرضيّة وهي النفس التي بلغت بأعمالها وقبولها إلى رضى الله تعالى فأصبحت من النفوس الطاهرة التي لها ذكرٌ في الملأ الأعلى وقبولٌ في الأرض؛ لأنها أطاعت ربها و أرضته فرضي و أرضى الخلق عنها ..
وجاءت الآيات الكريمة من سورة الفجر على ذكرها قال تعالى في كتابه العزيز :
﴿يا أَيَّتُهَا النَّفسُ المُطمَئِنَّةُ ارجِعي إِلى رَبِّكِ راضِيَة مَرضِيَّةً﴾
[الفجر:٢٧، ٢٨]
من أقسام النفوس أيضًا النفس المُلْهَمه وهي التي تشعُ إيجابيةٌ وتفاؤل فتحسن الظن بربها وبمن حولها من الخلق ، وينعكس ذلك عليها مشرقةً بالإلهامِ والنجاحِ..
تجدها تارةً تحفزُ و تارةً تبتكرُ وتنفذُ .. إيمانها بالعلم يُكملهُ العمل ويوافقه حسن الاختيار و نور البصيرة ..
قال تعالى : ﴿وَنَفسٍ وَما سَوّاها فَأَلهَمَها فُجورَها وَتَقواها﴾
[الشمس:٧، ٨]
أما آخر قسم من أقسام النفوس فهي النفس الكاذبة وهي عكس النفس الملهمة فهي مؤملة فارغة تغري صاحبها بطول الأمل والخلود في هذه الدنيا وأنه إذا قربت نهايته سيعود لربه تائباً طائعاً، فتأخذه المنية على حين غرة فيتبدد الأمل ، ويضيع كل عمله بعمى البصيرة وهنا تتجلى هذه الصورة في قوله تعالى : ﴿الَّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا﴾
[الكهف: ١٠٤]
هنا نصل إلى أن الأرواح لا تموت بمجرد مفارقة الأبدان فهي تبقى إلي يوم القيامة والبعث بعكس الأنفس تموت بمجرد مفارقتها للأجساد، ويتضح ذلك من قولة تعالى : ﴿كُلُّ نَفسٍ ذائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّما تُوَفَّونَ أُجورَكُم يَومَ القِيامَةِ ﴾
[آل عمران: ١٨٥]
وأن كل ابن آدم يتكون من جسد وروح ونفس..
الجسد يبلى و النفس تموت وتفنى والروح تبقى معلقة بأمر ربها..
وللروح خمسة مواضع في التعلق بالجسد : تعلقها بالجسد وهو جنين في بطن أمه، و تعلقها به عند الخروج للدنيا، تعلقها بالجسد وهو نائم وتعلقها به أيضاً وهو في قبره وأخيراً تعلقها بالجسد يوم القيامة..
الروح ساميةٌ ولابد من تغذيتها بطاعة الرحمن وبالذكر كي تطمئن وترقى للجنان..
أما النفس كالدآبة إن ركبتها حملتك، وإن ركبتك قتلتك، وإن لم تشغلها بالحق أشغلتك بالباطل..
واختم المقال بقول الشاعر أبو الفتح البستي :
يا خادِمَ الجِسم كمْ تشقى بخِدْمَتهِ
لِتطلُبَ الرَّبحَ في ما فيه خُسْرانُ
أقبِلْ على النَّفسِ فاستكمِلْ فضائلَها
فأنتَ بالنَّفسِ لا بالجِسمِ إنسانُ
التعليقات 1
1 pings
وديعه العصيمي
29/12/2020 في [3] رابط التعليق
زادك الله علماً وعملا وجعلك مباركةاينما كنت
(0)
(0)