يحكى أن هناك طفل صغير، يدعى عبدالله شاء له المولى أن يولد في أعظم القرى و أفضلها، نبت مثل زرع كريم في تربة كريمة، عائلة عريقة من مكة الحبيبة، حيث الوسط الاجتماعي في تلك الآونة لم تمسه يد المظاهر و السطحية، ولم يفسده حب المال ولم تسيطر بعد المادية، كان أغلب الناس وسطا في حالتهم الاجتماعية، متحابون متزاورون، يكدون ليعيشون، لم يفرد التعليم جناحيه على حياة الأبناء ولم تدخل الرفاهية حياة الناس في مكة الشهباء،
تربى هذا العبدالله في ظل والديه وأشقاء كثر، كفافا يعيش لكنه تعلم بذور الإباء والأدب وحسن الخلق والطهر، كان ذاك في أواسط القرن الماضي، و مكة تسكن قرب المسجد الحرام و أهلها مقيمون على التراضي، كبر هذا الفتى و علامات النبوغ بين عينيه، و زاد ذاك التميز حماس وتطلع وطموح يسكن جنبيه،
نما كبيرا وهو لايزال صغيرا، وبدا أميرا وهو في العمر غريرا، عائلة العاشور أصيلة عريقة، وصيتها بين الناس كالعطر عبيقه، كبر الفتى و صار يافعا، وعمل بجد واجتهد في كل نافعة، اتكل على ربه وشق الصخر بيديه، عمل و كد ودرس حتى بلغ دار البعثات حينها بما يعادل الثانوية،
قرأ الكتب العربية والروايات الإنجليزية، بنى لنفسه برجا من العلم و العمل عليا، اضطر لترك الدراسة ليعمل بينما سافر أصحابه للدراسة بمصر وصاروا بعدها وزراء، و هو من ضحى بنبوغه ليسد حاجته ويعيش بعرقه بإباء، زاد في عمله رويدا رويدا وتبناه رجل من أعاظم مكة فزوجه ابنته وأسكنه معه في حي سوق الليل ، عاش مع ابنة الأصول الجميلة عمره كله، وأنجبا ذكورا و إناثا في كنف الجد وظله، وخرج بعدها العاشور وجيها إلى مكة وأهلها الأخيار ، وازدهر عمله تدريجيا وزاد الخير والصيت بهاء وافتخار، خص عائلته بحب وسلام و ولاية، وفر لهم العيش الكريم والتعليم والرعاية، علم أنجاله الكرامة والأمانة و الكفاية، أسقاهم معنى الفضائل باقتدار وجدارة وبنى شخصياتهم على المسؤولية والجسارة، عمل وعمل وتألق وجهه الأشقر احمرارا من لهيب الشمس كل ظهيرة.. كل همه كان أن ينهل الأبناء العلم ويجلون البصيرة، صنع مجدا باسمه الناصع الخالي من القذر، وارتبط اسمه بفعل الخير لأهل مكة يهبهم الدرر، أعان الأرامل و الأيتام وأصحاب العسر، فتح مكتبه لكل محتاج يأخذ من الغني ويعين ذوي الضرر، وسعى حثيثا ليبني لمكة صروحا في الطب و الخير، بفضله بعد الله شيد مركز السكر والكلى وإعانة الغير، يذكره أهل مكة من العارفين بالشكر الوفير،
واليوم ها نحن قاربنا العشرين عاما بعد رحيله ومايزال حاضرا فينا بجميله، عبق أثره في كل وجه نقابله وطيب فعله يظلنا بخميله ،
يبكي الناس حين يروننا و يقولون رحم الله أباكم، وما علموا أنه باق فينا ونعيش بما ترك وتراكم، في الطب وتشييد الأسس له مآثر وفي إصلاح البين والخير نصبت له منابر، كم نسعد يا حبيب القلب بكونك حيا وإن فقدناك جسدا، تركتنا والناس تذكر مناقبك ونعلو بذكرك أبدا،
جعلنا الله غصنا مفيدا في شجرتك المثمرة الوارفة، وألبسنا حلل مجدك الرائعة و ترانيم الجميل العازفة،
رحمك ربي يا أبي وجعلك من الأبرار،
ولو لم أكن ابنتك لتمنيتها لأكون من الأخيار،
أظل واخوتي نحبك ونستنشق عبير جلدك ونزهو بأريج مجدك الباقي على طول السنين والأعمار.
ابنتك المحبة
د. فاطمة عبدالله عاشور 💜
التعليقات 4
4 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
Tebian
30/09/2020 في [3] رابط التعليق
رحمه الله و اسكنه فسيح جنانه ، لم يعد الاستغراب يجد طريقاً لي ف حقاً بعد هذا المقال علمت تماماً ماذا يعني هذا المثل (الابن سر ابيه) رحل رجل لن يتكرر و ترك لنا استاذة و دكتورة و معلمة و مرشدة لن تتكرر طول الأمد فخورة فيك دكتورة فاطمة بنت عبد الله عاشور 🤍.
(0)
(0)
ريم حامد
30/09/2020 في [3] رابط التعليق
مقال رائع.. رحمة الله عليه وعلى جميع اموات المسلمين … سلمت يمناكي.. مهما كتبنا ووصفنا لن نوفيهم حقهم..
(0)
(0)
د .حياة الهندي
30/09/2020 في [3] رابط التعليق
الأب قصة آمان …ورحيله مصيبة الزمان للعظماء امتدادات تظهرها المحن ويكشفها الزمن رحم الله وجيهًا أنجب وهجًا يشع بالخير ويتعاهدنا بالعبر ويذكرنا أنه مهما غابت أجساد تظل الأرواح أقرب ويمر العمر ويكبر الشوق ويبعثرنا سلم القلم والفكر دكتورة وجمعنا بهم في جنات ونهر
(0)
(0)
عندليب مراد
01/10/2020 في [3] رابط التعليق
رحمه الله وغفر له وجعل ذريته خير خلف لخير سلف.. رحم الله أباءنا و أمهاتنا .. جيل من العظماء لن يتكرر
لا أنسى عم عبدالله صديق ورفيق العمر لوالدي.. فكم كان يأنس بصحبته و طالما ذكره بالخير ..
وصحبتهم الجميلة تلك التي اثمرت عن صحبتنا أنا وأنت منذ نعومة اظفارنا و إلى يومنا هذا..
سلمت يداك .. مقال رائع في تخليد ذكرى والدك رحمه الله
(0)
(0)