يُتوفَى الكثير يمضي الوقت ويكون كفيل بذلك ، لكن هناك وفاة تُعاصرها مدى حياتك ، وفاة تُفسر لك المعنى الحقيقي للموت ، للفقد والتلويحة الأخيرة ، وفاة كفيلة بشرح معنى الرحيل ، والشُوق والحنين ، وفاة تُبيّن لك كيف للألم أن يَكبر ويتسع ويتبدد ويتغلغل بك ، كيف ينساب في عُروق دمك وبكل بقعة داخل روحك ، وفاة تسكُن بِعُمق بئرها و تفشل بالخروج ، وفاة تَتجدد مع كل خبر موت ، وكأنها حدثت لِلتّو ، تشعُر وكأنك داخل دوامة لا تَهدأ ، مرةً تُبصر الحقيقة ومرة تقوم بإرتداء ثوب الضلالات ، تَسقُط أعذب كلمة كان يَهتُف بها لسانك ، تراهُ في قلبك ، ذاكرتك ، ملامحهُ على كل الوجوه في كُل حيز ، لَكن هُناك شيئاً بُتر مِنك لا يُمكن شَرحُه !
مضت ثلاثة أعوام ، وكأن الفراق لِلتَّو ، دَعوت أن تمضي الأيام سريعاً ، ظَننت أنه بمرورها وتكدُسها سَيختلف الأمر ، لم أعلم أنه سَيتسع بهذا الحجم ! و يزداد مرارة ! تَشعُر وكأن نُور قلبك تَحول إلى عتمة ، وأنك أزددت الكثير من الأعوام ، تؤلمنا الساعة السادسة صباحاً من كل يوم يا أبي ، يؤلمنا يوم السبت و اليوم الأول من كل شهر والشهر الثاني من كل عام ،
علمني أبي كيف للمرء أن يَنجو بأسرته ، هُم أساسه وَ مسكنُه ، أيقنت أن لكل بيت روح واحدة الجميع يستأنس بها إن ذهبت أظلم ذلك البيت , و أنت روح ونور بيتنا وأرواحنا ..
أبي الرجل الذي قضيت أجمل أيامي تحت كنفه وحبه ورأفته , مهما كبرت أظل بجانبه طفلة السادسة , يتجسد به المعنى الحقيقي للحب اللامشروط واللامحدود , يُشكل معنى الأمان ، أحن مخبأ , الباب الذي يصد كل ألم يقف أمامنا , الثبات لكل اهتزاز يُحاول إسقاطنا , كان يصفف حياتنا حتى وإن كبر وشاب لا يغفل عن شيء ولا يبخل بشيء , هو النور للعتمة , الساعي لتسهيل كل شيء , أساس كل شيء ، هو البداية والمنتصف والأول والأخير ، هو الليّن الطيّب النقي ، أبي جُل كلمات الكُون الحُلوة لا تستطيع أن تَصفُه ، هو حبيبي وأبي و مُمهد طريقي وكُل الألقاب الجميلة تَنطبق عليه ، الباحث عن راحة الجميع على سبيل راحته , كان جيد في كل الأدوار كإبن ، كزوج , كأب , كأخ , كرب أسرة .. يتقن جُل الأدوار جيداً , مهما وصفت لا يحتمل الوصف ! ليس بِوسع الكلمات أن تُفسر ، أعمق من أن يُفسَر ، اتأمل حائط المنزل وأيقن أنه يشتاقك ، وأنظر للطريق وأيقن بشدة أنه يفتقد خطواتك ، وأنصت لأذان الفجر وأعلم جيداً أن أرجاء المسجد تتسائل أين أنت ، حتى عامل النظافة قد خطر على فِكْره في كل ضحى لماذا لم تَمُر ؟ ولا أنسى صاحب المحل القريب حينما سأل عنك ولم يكُن لدّي أي أجابة سِوى الصمت ..
يارب إنه أبي ، ربُ أسرتنا ، أساس بيتنا ، بلسم حياتنا ، رحمة قلوبنا ، طُهر أرواحنا ، نشتاقه جميعاً والأمر ليس بأيدينا ..
اللهم نُور لقبره مثلما كان النور لحياتنا ، اللهم الأُنس له كما كان وجوده يؤنسنا ، اللهم جعلناه في ودائعك فأجعله في عليين بجوار الأنبياء والصالحين وأجمعنا أسرةً كاملة في جنات النعيم.