( الحكيم و وصاياه)
كان لقمان رجلا حكيما و لم يكن نبيا بل أوتي الحكمة
وتعرّف الحكمة بأنها ‘”الصواب و الكمال” وتعرف بأنها “معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم” ، وقد اتصف لقمان بالحكمة، حتى استدلّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يوماً بأحد أقواله، ونقله إلى الصحابة رضي الله عنهم، فقد قال النبي عليه السلام: (إن لقمانَ الحكيمَ كان يقولُ: إن اللهَ عزَّ وجلَّ إذا استُودِعَ شيئًا حفِظَه)، ولقد ظهرت الحكمة في حياة لقمان الحكيم، وصفاته، وأقواله، حتى وثّق شيءٌ منها في القرآن الكريم في سورةٍ حملت اسمه أيضاً، هي سورة لقمان.
لقمان الحكيم هو لقمان بن عنقاء بن سدون، ويُقال له : لقمان بن ثاران، وقيل عنه أيضاً أنّه رجل نوبيّ من أهل أيلة، يُعرف بالصلاح والعبادة والحكمة، ولقد ورد عنه أنّه كان قاضياً في زمن داود عليه السلام، لكنّه لم يكن نبياً بل حكيماً قاضياً عابداً، وسئل ذات مرةٍ عن كونه صار سيداً بين الناس محبوباً مقرّباً منهم، يجلس في أرفع المجالس، مع أنّه كان عبداً أسوداً راعياً للغنم، فأجاب مُلخصّاً سبب ذلك: (إنّما بلغت ذلك بغضي بصري، وكفّي لساني، وعفّة مطعمي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدّتي، ووفائي بعهدي، وإكرامي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني؛ فذاك الذي صيّرني).
و قد جاءت وصايا عدة وصى لقمان بها ابنه في السورة الكريمة وذكر أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما .
و الوصايا كالتالي :
الوصية الأولى: وهي الأهم على الإطلاق، وهي التحذير من الإشراك بالله -سبحانه- وجعل أندادٍ له، وهو واحدٌ أحدٌ، قال الله تعالى: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)،[٥] فأولى الأعمال بالمرء أن يوحّد الله تعالى، ويفرده بالعبادة والطاعة، وتلك غاية خلق الله -تعالى- للناس.
الوصية الثانية: تنبيه لقمان لابنه بأنّ عبادة الله -تعالى- وتوحيده مقرونٌ مباشرةً ببرّ الوالدين وطاعتهما، وصلتهما والإشفاق عليهما، وفي تلك الآيات والوصايا خُصّت الأم كذلك عن الأب في البرّ والصلة؛ وذلك لتعبها وجهدها الإضافي في السنوات الأولى من عمر الطفل، حملاً وإرضاعاً وسهراً وغير ذلك.
وذُكر أن هذه الآية نـزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه.
فقد روي أن أمّ سعد حلفت أن لا تأكل ولا تشرب، حتى يتحوّل سعد عن دينه بعد إسلامه ، قال: فأبى عليها، فلم تزل كذلك حتى غشي عليها، قال: فأتاها بنوها فسقوها، قال: فلما أفاقت دعت الله عليه، فنـزلت هذه الآية (وَوَصَّيْنا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) إلى قوله: فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).
وفي رواية أخرى قيل : قالت أمّ سعد لسعد: أليس الله قد أمر بالبرّ، فوالله، لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا، ثم أوجروها، فنـزلت هذه الآية (وَوَصَّيْنا الإنسانَ بِوَالِدَيْهِ).
و قال سعد : لما أسلمت، حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا، قال: فناشدتها أوّل يوم، فأبت وصبرت، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها، فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت، فقلت: والله، لو كانت لك مئة نفس لخرجت قبل أن أدع ديني هذا، فلما رأت ذلك، وعرفت أني لست فاعلا أكلت.
الوصية الثالثة : و فيها يوصي ابنه بشمولية علم الله القادر و العالم بكل شي، قوله تعالى : (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (16)
اختلف أهل العربية في معنى الهاء والألف اللتين في قوله: (إنَّها) فقيل ذلك كناية عن المعصية والخطيئة.
والمعنى أن الأمر إن تك زنة حبة من خردل من خير أو شرّ عملته، فتكن في صخرة.، وقيل معنى الصخرة الجبل ، أو في السموات، أو في الأرض، يأت بها الله ويعلم بها ، حتى يوفيك جزاءها يوم القيامة .
الوصية الرابعة: أورد فيها لقمان الحكيم ذكر التوجّه لله -تعالى- بالعبادة والطاعة، وأداء الفرائض، ولخّص ذلك في ذكره للصلاة، قال -تعالى- على لسان لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ)،[٨] وفي الصلاة إشارةٌ لتهذيب والنفس وزكاة الأخلاق أيضاً.
الوصية الخامسة: وقد وجّه فيها لقمان ابنه إلى المبادرة والمداومة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمع فضل ذلك وعودته بالخير على المجتمع من حوله، فإنّ ذلك يعود بالخير والنفع على صاحبه أيضاً، فمن يأمر بالمعروف يحبّه ويألفه ويأتيه، ومن ينهى عن منكر، يبغضه وينفر منه فلا يأتيه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحمّلٌ للمسؤولية تجاه المجتمع، وإبداء رغبةٍ حقيقيةٍ في الإصلاح والاستقامة فيه.
الوصية السادسة : الصبر على المكاره وفي هذا تمحيص واختبار وكل ذلك مما أمر الله تعالى به فهي من عزم الأمور أي من الأمور التي أمر بها تعالى .
وللوصايا بقية وثمار مستفادة غدا بإذن الله .. لاتفوتنكم.
د. فاطمة عاشور💜