بقلم الدكتور/احمد الهلالي
الموهوب دائما ما يتميز في مجاله أنى كان، لكن ثقافة التعييب التي نشأت بفعل الطفرة الاقتصادية لبعض المهن، جعلت كثيرا من الموهوبين في تلك المهن (المعيبة اجتماعيا) يتحولون عما يهوون فيبحثون عن أرزاقهم في مجالات أخرى، ومع ذلك فهم لا يجدون السعادة التي كانوا سيجدونها في مهنهم المحبوبة، والغريب أن بعض تلك المهن موجودة في النظام الوظيفي خاصة في القطاع العسكري، لكن ممتهنوها ربما لا يفصحون عن مسمياتها خارج مقرات العمل بسبب التعييب والنظرة الدونية اللامبررة.
من تلك المهن الطهي (الطبخ)، وما حل بهذا المجال بفعل (التعييب الاجتماعي) من فظاعات، حتى فقد المطبخ السعودي هويته، وأصبحت أطباقه هامشية لا تحضر إلا بوصفها (تراثا)، ما فتح الباب للمطابخ الوافدة مثل (المطبخ اليمني/ الحضرمي/ التركي/ اللبناني/ المصري/ الأفغاني) وما إلى ذلك من أنواع المطاعم المنتشرة، بل المتناسخة في كل المدن والقرى، وامتلاء بلادنا بالعمالة الوافدة غير المدربة من أجل صناعة الطعام، وما حل بالطهاة السعوديين الموهوبين الذين انصرفوا عمّا يحبون، ولم يجدوا متنفسا لمواهبهم وإظهار مهاراتهم إلا في (طلعات البر) أو في الاستراحات مع الأصدقاء المقربين!
مؤخرا، استطاع شباب الوطن كسر كثير من حواجز (التعييب) وشقوا طريقهم دون اكتراث بأصحاب العقول الضيقة، فمنهم من درس فنون الطهي في الخارج، ومنهم من وجد فرصة للعمل في المطاعم القائمة، ومنهم من أسس مشروعه الخاص بنفسه، سواء في قطاع المطاعم، أو الأكشاك، أو عربات الطعام المتنقلة، أو غيرها، ونجح بعضهم في ذلك، ووجد إقبالا من المواطنين، لمهارته، ولثقتهم في أمانته ونظافة الطعام، فنحن اليوم ولله الحمد نجد شبابا وشيبا يفتحون حساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي مفتخرين بمهنهم، يستعرضون مواهبهم في مختلف الأطباق المحلية والعالمية، أضف إلى ذلك مشروع (الأسر المنتجة) المميز الذي فتح مطابخ الطاهيات السعوديات، ليقدمن إبداعاتهن، فيتلقاها الناس بسعادة بالغة، فرغم ارتفاع الأسعار إلا أن وعي المجتمع بدعم أبنائه، وثقتهم في أمانة المواطن ونظافة وجودة المكونات المستخدمة جعلتهم يتقبلون ذلك.
من البشائر أن وزارة الثقافة السعودية التفتت إلى هذا الملف الوطني المهم جدا، حتى أفردت له هيئة خاصة تعنى بشؤونه، نأمل كثيرا أن ينصب اهتمامها على إبراز المطعم السعودي بوجباته وأطباقه، التي سينالها حظها من التطوير والإشهار على أيدي الطهاة السعوديين، فما يزال الكثير منها حبيس بعض المنازل، فشريحة واسعة من ربات البيوت الصغيرات يجهلن إعداد أطباق الأمهات والجدات، وبعضهن تخجل، أو تخشى اتهامها بالتخلف والرجعية!
أيضا، أملنا كبير في مزيد العناية من وزارة الموارد البشرية بهذا الملف، وتصنيف هذه المهنة والعمل على إصدار رخصة الطاهي، وكذلك السعي إلى دفع المهتمين والمتخصصين إلى افتتاح الأكاديميات، وإجبار المطاعم على توطين مهنة (الطاهي) وقبول المتدربين وتقديم الأطباق السعودية، والتفاهم مع وزارة التعليم، لاعتبار المطبخ السعودي أساسا في تعليم الفتيات، وافتتاح أقسام خاصة بالشباب حتى لو كانت ـ بداية ـ على هيئة دبلومات في كليات خدمة المجتمع بالجامعات، حتى تصبح لفنون الطهي أقسام وكليات للشبان والشابات على حد سواء، فما يزال القطاع بِكرا، والفرص عريضة، والوطن بحاجة إلى سواعد ومواهب أبنائه وبناته.