حين كنت صغيرة كنت أرافق والدتي في جولات شراء الأقمشة و الاحتياجات الأخرى أحيانا و كنت كثيرا ما أسمع كلمة (اتوصى ) ولم أفهم معناها القاطع إلا بعدما كبرت قليلا و معناها أن يزيد البائع عدة سنتيمترات من القماش أو قليل من المكسرات كوصاية ..وكان ذلك عرفا دارجا عند أهل البلاد العربية في الأسواق الشعبية .. و يدل على كرم البائع و محاولة كسب ود المشتري و التلطف إليه ..و ظل الأمر كذلك إلى أن داهمتنا المتاجر الكبيرة و المولات فانتفت الوصايات و قلت مؤشرات الكرم و انحسرت أسباب البركة وصارت الأسعار محددة قاطعة كالسيف مطبوعة ومعلقة كخنجر في ياقة الثوب أو خاصرة البضاعة ..
كان زمنا جميلا ولا شك .. وكان ذاك الأمر فيما يختص بالتجارة وعملية البيع لكن الغريب أنه تمدد ليقفز فوق أسوار الزمن و نجده يطل برأسه إما في الحياة العامة أو في مناحي الأعمال الأخرى و مجالس العلم و أروقة المؤسسات العلمية .. و الحقيقة ان هذا الامر أخذ مصطلحات و أسماء جديدة باتت تطلق على مسميات مغايرة ..مثلا في مجال التجارة لم يعد هناك وصاية لكن أصبح هناك هوس يدل على التيسير و الإكرام مثل ظهور محلات الخردة و السعر الموحد (بريالين) أو هوس الحصول على العروض الخاصة مثل (اشتري واحدة و احصل على الثانية مجانا ) و مثل التخفيضات المستمرة المبالغ فيها في بعض المحلات أو عمليات تقليد الماركات الشهيرة وبيعها بسعر أرخص ، و كل ذلك بيرق كذهب يصب في مصلحة المواطن و الحقيقة أنه يؤدي إلى تردي الذوق العام و ضعف الجودة وسيادة القطع المقلدة واختراع طرق جديدة لافراغ جيب الزبون في تخفيضات وهمية وعروض مضللة .. و طال ذاك الخراب حتى مواد بناء المباني و إنشاء المشاريع الخاصة بل وبعض المشاريع الحكومية،
أما في المجالات الأخرى فقد اعتاد الناس على فكرة أعطني زيادة حتى كرم المتصدقين بات واجبا يظهر على قسمات عامل النظافة اذا ما مررت به و تجرأت فنسيت أن تعطيه صدقة و كأن ذلك فرضا على كل عابر، و صار يتكل على ذلك بدلا من الالتفات لإتقان عمله، فهذا كرم وإحسان تحول إلى أداة تجعل العامل اتكاليا و تنزع منه الإخلاص والأمانة، وما الاكراميات و الرشاوى و غيرها إلا وجوه من فساد ربما بدات كمحبة و تأطير لمودة وانتهت كمحسوبية و وساطة و فساد رسمي .
هذا المبدأ تكرس في نطاق التعليم تحت اسم(bonus) او الزيادة حيث تم تطبيق هذه الآلية لتحسين درجات الطلاب و منحهم فرصا إضافية لتعديلها وذلك بوضع عدة أسئلة زيادة على العدد المقنن ليرتفع معدل الطالب و هو نظام معمول به في كثير من دول العالم سواء في التعليم الجامعي أو ماقبله في التعليم المدرسي، و هو في رأيي آلية طيبة تزرع أملا إضافيا في وجدان الطالب خاصة لمن يريدون التفوق .. وهي آلية عادلة تعطي الطالب الدرجات مقابل إجابته على أسئلة أي بمجهوده وليست (وصاية) و لا صدقات توزع هنا وهناك، هذه الآلية تفقد قيمتها و الهدف منها إذا تحولت لمجرد الوصاية حيث قد تعمد إدارة مدرسة أو عمادة جامعية لإضافة درجات للطلاب جميعا على حد سواء و بدون أي أسئلة إضافية بل تعطى على شكل هبات تمنح بكرم حاتمي و بقرارات قد تصدف أن تتوفر فصلا دراسيا لوجود مبررات و تغيب فصلا آخر لغياب تلك المبررات،
و في هذا – حسب رأي الطلاب انفسهم- غبن للطلاب عبر الدفعات المختلفة حيث تتنعم دفعة بدرجات موهوبة و يحرم آخرون من هذه الهبة .. كما أن هذه الطريقة تبذر البذور الأولى لفساد التربة الأخلاقية لدى الطالب الذي يأخذ شيئا بدون مقابل و على طريقة ( خذ واحدة مجانا) وهو أسلوب يزرع في الطلاب الاتكالية و الاعتمادية و اقتناص الفرص و عدم بذل كامل الجهد بل الاكتفاء بأقل المجهود طالما الزكاة توزع في أروقة الجامعات والمدارس على شكل درجات، ثم إن هذا المبدأ يترسخ لدى الطالب أو الطالبة فيعتاد أسلوب الشحاذة العلمية ناهيك عن الاعتماد على المذكرات و الملخصات والمحذوفات من الكتب مما يقلل من حب الدافعية للتعلم و يجعل العلم مجرد درجة في سلم يراد دهسها بأي طريقة ليتم العبور حتى لو على حساب القيم و المبادىء .. كيف يلام الطالب على اتكاليته و عدم جديته و كرهه لبذل الجهد و لجوءه للغش و نحن من نعطيه اول تأشيرة في اجتياز حاجز حدود الحق بمنحه تلك الدرجات !!؟
كيف يلام و يعاقب إن غش وهل هذه الbonus إلا مجرد وجه آخر مستعار من وجوه الاستعارة و التورية لمعنى التدليس …من يعد هذه الدرجات الموهوبة كرما أقول له أن معلمينا الأوائل و قدوتهم سيدنا رسول الله لم يقدموا النجاح لطلابهم كصدقات و هبات، كما أقول لهم أن العلم لا يقبل الصدقة بل يقبل المال الحر الحلال الذي يأتي بجهد و عرق ..العلم كان ممر اجتياز المسلمين لسيادة العالم حين درسوا بشغف و تعلموا بإخلاص و أفنوا حياتهم لتحقيق ذلك و ليس على مبدأ (حرام نجحوهم). . العلم بحر تغرف منه كنوز من فوائد ولكن ليس من ضمن الكنوز هوام البحر الطفيلية المتسلقة على جنبات الأحياء المائية، كيف نريد أن نسود العالم مجددا ونحن نشجع على هذا النمط من الفساد و ننحو بشخصيات شبابنا وشاباتنا نحو الانحراف ؟! نعم .. الانحراف .. فتلك البذرة التي زرعت تظل تتعملق و تكبر و تلازم صاحبها الى أن تصبح صفة متأصلة فيه فيعمل بعد تخرجه في وظيفة ويظل يريد أن يأخذ دون ان يعطي فيتخذ من الأنانية ديدنا و من (الفهلوة) بالتعبيرالعامي أسلوبا ليحصل على مايريد دون مقابل .. وحينها قد يرتشي و قد يسرق وينصب والسبب هو حفنة من درجات اخذها بدون وجه حق يوما ما .. بل إن الخراب يتعدى ذلك إلى حياته الخاصة فتجد الرجل يأخذ و لايشبع و لايعطي لزوجته شيئا أو على العكس تريد هي أن تدلل و يربت على شعرها دوما و تأخذ دون أن تجهد نفسها ببذل المقابل و النتيجة طلاق مستعجل و بيوت خربة هجرها العطاء والتضحية وسكنتها الأنانية .. هذه الدرجات ( البونسية) تقتل حب الطموح والتطلع و الاعتماد على الذات.. وليست من حق الطالب بل حق الطالب أن أعطيه حقه و مستحقه في شرح مقرره و ابذل كامل جهدي ليستفيد حتى لو اضطر الأمر لشرح عشرات المحاضرات الإضافية .. ومن حقه علي أن لا أنقصه ربع درجة طالما يستحقها لكن ليس من حقه ان أخمش و ألقي في حجره درجات لم يتعب في تحصيلها .
سيداتي و سادتي العلم لن يرجع لسابق مجده إلا إذا علمنا الطالب إحترام مايدرس فلا يجوز أن توجد مادة أو مقرر علمي يعامل معاملة المادة التعويضية فكل المواد لها أهميتها وإلا لماذا تم تقريرها ، و الاختبار فيها طالما لازال هو أداة قياس التحصيل إذن لابد أن يصان فلا يزاد عليه درجة بلا استحقاق.. على أروقة العلم أن تبني شخصا مسلما سويا حقيقيا لا خريجا ناجحا فحسب .
وهج:
العلم زادنا نحو التوجه للقمم .. فأنى لزاد في جراب مسروق أو مستعار أن يكتب لآكله البركة و الفائدة ..