دُرَّةُ وَهَج
“أكثرُ النَّاسِ إثارةً للبهجةِ هو من يستدعي من عمقِكَ الفرحَ بلا تَكَلُّف..
وأكثرُ الخَلْقِ إشاعةً للمللِ من يستخرجُ
دلاءَ الإحباطِ من
بئرٍ مهجورةٍ في وجدانِك..
جَالسْ مَنْ يُثِيرُ
عَبقَ العطرِ من
ورودِ خمائِلهِ..
إنْ أنتَ صاحبتَ ذا الغَيمةِ الماطِرة تفاؤلاً..
أزْهَرتْ رَياحينُكَ بلا سَمَاد.
د. فاطمة عاشور”
أن تكتبَ الحكمة والقول الحكيم شأنٌ، لكن الشأن الأكبر، أن تكتب الحكمة تلك، بصورة متأدَّبة، وهذا هو الفرق بين الأديب وعامة الناس.
الأديب هو من ينحت أحلى الكلام من حجرٍ، عملا رائعا، وهو من يغرف من ذات البحر الذي يغرف منه الناس ماء لا يشابه مياههم تلك.
الأديب هو من يعمل موهبته الكتابية للخروج بالعمل من المعقول إلى اللامعقول، من العادي إلى الإدهاش.
هكذا انبرت د. فاطمة عاشور في درتها التي بين يدينا:
إن تلوينها في المفردات، وتنويع الطرائق مما يميزها عن غيرها من كثير من الكتاب في الخواطر والقصص القصيرة جدا. انظروا إليها وهي تقول:
“أكثرُ النَّاسِ إثارةً للبهجةِ هو من يستدعي من عمقِكَ الفرحَ بلا تَكَلُّف..”
فهي لا تقول أكثر الناس إبهاجا للنفس مثلا، وإنما تقول: أكثر الناس إثارة للبهجة”
فالبهجة لديها شيء يثار، كعطر الورود الذي يثيره الطل، أو ضوء القمر الذي يتبدى خلف سحابة نتيجة تحركها، أو انسكاب سحابة ماءً إثارة من عامل ثالث. هذا هو التفنن الكتابي.
ثم هي تقول:
“من يستدعي من عمقك الفرح”
وفي الفعل يستدعي تفاعل بين اثنين، مستدعي، ومستدعىً، فالفاعل ههنا يعمل وداده، وتبسطه لبسط الفرح، ونشله بخفة من عمق صاحبه، تحببا بلا تكلف، وبلا عقد.
ثم تنتقل إلى وصف مضاد:
“وأكثرُ الخَلْقِ إشاعةً للمللِ من يستخرجُ
دلاءَ الإحباطِ من
بئرٍ مهجورةٍ في وجدانِك..”
وفي اختيار المفردات ههنا وتنويعها جمال، فهي لا تكرر ذات المفردة “أكثر الناس” وإنما تقول: أكثر الخلق، ترويحا للمخاطب خوفا عليه من سآمة التلقي.
ثم إنها تصف فعله بالإشاعة، ولا ريب إن لتناسب هذا الفعل للانتشار تماما كالإشاعة والكذبة والفرية مجانسة مناسبة.
ثم تأتي بصورة لا تخطر على عقولنا تقديما لحكمتها: إذ إن مشيع الملل هذا، تجعل من أدواته الدلاء، وهي جمع الدلو، وهو ما ينشل (يستخرج) به الناس الماء من البئر، والأديبة فاطمة تجعل داعي إشاعة الملل هذا يرمي دلاءه في بئر وجدان صاحبه ويستخرج منها إحباطات يعرضها عليه، وبئس الصاحب هو.
ثم تختم في صورة جميلة أخرى، كعادة اختياراتها بنصيحة للمتلقي:
“جَالسْ مَنْ يُثِيرُ
عَبقَ العطرِ من
ورودِ خمائِلهِ..
إنْ أنتَ صاحبتَ ذا الغَيمةِ الماطِرة تفاؤلاً..
أزْهَرتْ رَياحينُكَ بلا سَمَاد”.
إن فاطمة العاشورية هذي تصر على التأدب في كل النص، فهي تربط المقدمة بالختام، أعني الإثارة في مقدمة النص، ها هي تقول: “جالسْ من يثير عبق العطر، من ورود خمائله”. فتجعل الحديث الجميل المتفائل عبق ورود، تخرج من خمائل الإنسان السمح الحلو المعشر، المحب الخير لجليسه، الناثر البهجة في نفسه.
ثم تضرب مثلا تأكيدا على نصيحتها التي أشارت بها إليك، وضرب الأمثال شأن أدبي جميل، فتقول:
إنْ أنتَ صاحبتَ ذا الغَيمةِ الماطِرة تفاؤلاً..
أزْهَرتْ رَياحينُكَ بلا سَمَاد”.
أكتفي بهذا القدر من التأمل في هذه القطعة النثرية الحكيمة الجميلة، النابعة من روح حلوة عبقة.
الشاعر و الناقد
يبات علي فايد
التعليقات 1
1 pings
ابو محمد
11/11/2020 في [3] رابط التعليق
ياسلام عليك متالقة كعادتك د. فاطمة… بارك الله فيك