منذ الأزل، اقتضى التعليم الحضور المباشر في الموقف التعليمي، وكان ركنا هذا الموقف هما المعلم والمتعلم، وعبر الحضارات الإنسانية على مر العصور تغيرت أساليب وأدوات و أنماط التعلم مع تقدم و نضج البشرية لكن ظلت العملية التعليمية السائدة في كل زمن و مكان هي التي تتضمن مكانا يتم فيه التعليم بشكل مباشر سواء كان هذا المكان معبدا أو كنيسة أو مسجدا أو مدرسة أو ساحة أو جامعة أو أي مؤسسة مماثلة.
وفي هذا العصر الذي انفجرت فيه التقنية إلى درجة تحير الألباب و تدهش النفوس وصارت الدنيا جادة كونية وليست حتى قرية، فالأرض عبارة عن وحدة واحدة متصلة من التشابك و الاتصال بشكل ألغى كل الحدود و المسافات.
وخلال طوفان الكورونا القائم اضطرت الوزارات التعليمية اللجوء إلى أنظمة تجري فيها العمليات التعليمية كلها ضمن نظام الانترنت ويبقى كل في أريكته و يشرح و الآخر يتعلم بلا انتقال مكاني و لا مواجهة مباشرة.
وبمعطيات كثيرة و معايير عديدة نجحت هذه الآلية بشكل إيجابي وبجهود جبارة في القيام بهذا العمل الضخم سواء في الجامعات أو المدارس و المعاهد، و بالرغم من هذا النجاح فقد رصدت عديد من نقاط الضعف و القصور في بعض أجزاء المهام في كل مكان من العالم.
لفت نظري مؤخرا خبر وصلني عبر تطبيق في وسائل التواصل حول بلوغ الرائعين أحفاد العلامة الجليل الشيخ الطنطاوي درجات عالية في التعليم و حصلوا على وظائف بشكل عادي مع كون دراستهم كانت عن بعد طوال حياتهم و لم يلتحقوا بمدرسة نظامية واقعية أبدا.
شرحوا ووالدتهم الكريمة تميز التعليم عن بعد و خلوه من نقائص التعليم العادي و بأنه يوفر وقتا وجهدا و إبداعا و تفرغا و إقصاء للسلبيات كأصدقاء السوء مثلا.
و الحقيقة المسألة ذات أوجه إيجابية كبيرة و لاشك، لكن في الحقيقة تجربتهم في التعليم المنزلي لايمكن تعميمها لأسباب كثيرة و متشعبة..
أولها أن الطفل بل و المراهق و الشاب بحاجة إلى التماس الاجتماعي لنمو شخصيته مع الأقران،
ناهيك عن أنه ليست كل عائلة مؤهلة لتوفير بديل تعليمي فعال.
كما أن التقوقع بالدار قد يحدث فسادا و أضرارا أسوأ من المدرسة الواقعية و ما فيها.
التجربة بديعة لكن التعليم المنزلي لايكفي و لا يجزئ في العلوم التطبيقية مثلا و الصحية و الهندسية، و حتى العلوم الإنسانية تحتاج إلى حلقات عمل تعاوني أحيانا و الي تطبيقات تستدعي المباشرة وواقعية المكان والزمان.
والإنسان كائن اجتماعي بطبعه والمراحل التعليمية قبل الوظيفة تقتطع من عمر الفرد ثلث حياته تقريبا وهي الفترة الأهم في تشكيل الشخصية و مميزاتها فإن كان الشاب أو الشابة سيقضيان هذه الفترات الحرجة من طفولة إلى عنت المراهقة وبداية التحول إلى مرحلة الشباب في قوقعة البيت و محارة العائلة لكانت النتائج فيها من السلبية مافيها من انحرافات نفسية و أمراض الفصام و عدم الثقة بالذات و فرط الأنانية والرهاب الاجتماعي و عدم القدرة على التكيف والاختلاط.
ناهيك عن انعدام فرص التلاقح الفكري المباشر بل حتى غياب دفء الأثر من المعلم كأيقونة و نموذج يحتذى، فهنا غابت القدوة و ضاع تأثيرها القيمي و النفسي والعاطفي أيضا.
كم من مرة سمعت فيها من طالبة رغبة و تمني بأن تقابلني بعد محاضرات الاستماع عن بعد ونهاية الفصل. وهذا يدل على أهمية التواصل المباشر إنسانيا.
البشرية لن تفتأ تعمل وفق إطار انسانيتها، وفي رأيي العقل ليس الأداة الوحيدة للتعلم و الاستفادة، بل هناك الوجدان و القلب و الجوارح و النفس، كل تلك تسجل خبرات ومعلومات و منافع لا خلاف عليها.
الانخراط في دنى العالم الافتراضي لايعني تعطيل التعلم المباشر و لانسيان الحاجة لذلك.
وهناك آراء حالية تناقش تحويل و رقمنة بعض المواد العامة في جامعاتنا باعتبارها مواد نظرية لاتستدعي الحضور المباشر ومن متبري هذا أحث وبشدة على الإبقاء على أهمية التفاعل الواقعي و مردود ذلك على الإنسان نفسيا و ذهنيا وعلميا وثقافيا ودينيا وقيميا ، والأخيرتان هما الأكثر حظا و الأوفر نصيبا في حال التعلم المباشر، وهذا يحقق الهدف الأهم من التعلم و التعليم وهو التغير نحو الأفضل والنهوض بالأمة.
نسأل الله رشدا وفلاحا أعظم وأكثر في مؤسساتنا وسياستنا التعليمية .
د. فاطمة عاشور 💜